يشهد المجال الطبي في السنوات الأخيرة تحولات كبيرة بفضل التقنيات المتقدمة للذكاء الاصطناعي، الذي أصبح يستخدم في العديد من المؤسسات الطبية لتعزيز العمل الطبي وحتى لاستبدال بعض المهام التي كان يؤديها الأطباء. ومع هذا التطور السريع، يتعين على طلاب الطب التفكير بشكل عميق في كيفية تأثير الذكاء الاصطناعي على المهن الطبية المختلفة، والتخصصات التي قد تتأثر بشكل أكبر بهذا التغيير، وذلك قبل اتخاذ قرارهم بشأن التخصص الطبي الذي يرغبون في دراسته.
إن دراسة التخصص الطبي أمر يتطلب استثماراً ضخماً من الوقت والجهد، ومع تطور الذكاء الاصطناعي في الطب، تبرز مخاوف من أن بعض التخصصات قد تشهد تحولاً أو تقلصاً في الطلب عليها. قد يؤدي الذكاء الاصطناعي إلى الاستغناء عن بعض المهام التي كان يؤديها الأطباء، أو حتى إلى استبدال بعض التخصصات الطبية بأدوات الذكاء الاصطناعي المتطورة. تاريخياً، شهد العالم تغيرات مماثلة مع الثورة الصناعية، حيث ظهرت مخاوف من استبدال البشر بالآلات الصناعية الجديدة، لكن مع مرور الوقت ظهرت وظائف جديدة لتلبية احتياجات الصيانة والإصلاح. من المتوقع أن تشهد ثورة الذكاء الاصطناعي مساراً مشابهاً، لكن بوتيرة أسرع، ومع استخدام الذكاء الاصطناعي في مختلف مجالات الطب، من الممكن أن تتغير احتياجات القوى العاملة في هذا المجال بطرق غير متوقعة.
يعد الذكاء الاصطناعي في مجال الأشعة التشخيصية واحداً من أبرز الأمثلة على هذا التغيير، حيث يستخدم أطباء الأشعة تقنيات التصوير المختلفة مثل الأشعة السينية، والتصوير المقطعي المحوسب، والتصوير بالرنين المغناطيسي. ومن المتوقع أن يصبح الذكاء الاصطناعي مساعداً رئيسياً في هذا المجال، حيث أظهرت الدراسات أن الخوارزميات المدعمة بالذكاء الاصطناعي تستطيع تحليل الصور الطبية بشكل فعال. ففي دراسة أُجريت عام 2019، تبين أن الذكاء الاصطناعي كان قادراً على اكتشاف حالات سرطان الثدي بدقة مماثلة لتلك التي يوفرها أطباء الأشعة. وفي عام 2023، أظهرت دراسة أخرى أن الذكاء الاصطناعي ساعد في تحسين اكتشاف التشوهات في صور الصدر بنسبة 26%، ما يشير إلى دور أكبر لهذه التقنية في المستقبل. ومع تطور هذه الأدوات، قد يتقلص دور أطباء الأشعة في المستقبل البعيد.
في مجال علم الأمراض، يعتمد الأطباء على تشخيص الأمراض من خلال فحص الأنسجة والسوائل الجسدية باستخدام أدوات مخبرية. وبفضل الذكاء الاصطناعي، يمكن تحليل الشرائح الرقمية المستخدمة في علم الأمراض، مما يساعد في اكتشاف السرطان وتصنيف الأورام. وقد أظهرت دراسة عام 2022 أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يحسن دقة التشخيص بنسبة كبيرة. كما أن الأبحاث الأخيرة أكدت أن الذكاء الاصطناعي قادر على تحسين دقة تشخيص الأورام في الغدة الدرقية بشكل ملحوظ. تشير هذه الدراسات إلى أن الذكاء الاصطناعي قد يصبح أداة حيوية لتسريع وتحسين عمل علماء الأمراض في المستقبل.
أما في تخصص الأمراض الجلدية، فقد أثبتت نماذج الذكاء الاصطناعي المدربة على صور الجلد قدرتها على تحديد حالات مثل سرطان الجلد والأورام الحميدة بدقة أكبر من الأطباء. في إحدى الدراسات، زادت دقة التشخيص باستخدام الذكاء الاصطناعي من 65% إلى 73% بالنسبة لسرطان الجلد. هذه الأدوات لا تقتصر فقط على مساعدة الأطباء، بل يمكن أن تتيح للمرضى استخدام التطبيقات المدعومة بالذكاء الاصطناعي مثل "Skin Vision" و "Mole Mapper" لتشخيص الأمراض الجلدية بأنفسهم. ومن المتوقع أن يؤدي الاستخدام الواسع للذكاء الاصطناعي في هذا المجال إلى تقليص الحاجة للتخصصات الطبية في تشخيص بعض الحالات الجلدية، بل قد يسمح للمرضى بتشخيص أنفسهم.
في مجالات الطب الباطني، مثل أمراض القلب والغدد الصماء وأمراض الجهاز الهضمي، قد يعتمد الأطباء بشكل متزايد على الذكاء الاصطناعي في تفسير نتائج الفحوصات والتحليلات وتقديم التوصيات المناسبة بناءً على البيانات المتاحة. هذا يعني أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يسهم في تحسين جودة التشخيص والعلاج بشكل عام في هذه التخصصات. بينما يقتصر استخدام الذكاء الاصطناعي حالياً على تحليل البيانات والمساعدة في التشخيص، من غير المرجح أن يتم استبدال الأطباء في الجراحة باستخدام الروبوتات الذكية في المستقبل القريب، وذلك بسبب الطبيعة المعقدة للعمل الجراحي.
مع تزايد تأثير الذكاء الاصطناعي في العديد من التخصصات الطبية، من المتوقع أن تحدث تغييرات جذرية في المستقبل القريب. هذا التغيير قد يؤثر بشكل أسرع في التخصصات غير الجراحية مقارنة بالتخصصات الجراحية. وفي الوقت ذاته، سيظل المجال الطبي في حاجة إلى الوقت لتبني هذه الابتكارات بشكل واسع، بسبب القلق حول تأثيرات هذه التقنيات على حياة المرضى. على الرغم من هذا، سيظل من الضروري لطلاب الطب أخذ هذه التحولات في الاعتبار عند اتخاذ قراراتهم بشأن التخصصات المستقبلية.
إرسال تعليق