لم تعد ثورة البيانات الضخمة مجرد جزء من التحول الرقمي الذي شهده العالم خلال العقود الماضية، بل أصبحت زلزالا معرفيا واقتصاديا يهز أسس النظام العالمي ويعيد تشكيل موازين القوى بين الدول والشركات وحتى الأفراد.
تحولت البيانات من مجرد نتيجة جانبية للأنشطة البشرية إلى ثروة استراتيجية تفوق في قيمتها النفط والغاز، لأنها مورد لا ينضب، يتوسع بلا حدود، ويولد فرصا جديدة كل يوم. لذلك صار يُطلق عليها الذهب الجديد أو العملة الأقوى في زمن الاقتصاد المعرفي، حيث تحدد من يملك السيطرة ومن يقود المستقبل.
حجم البيانات التي ينتجها العالم اليوم يصعب تخيله. فبين عامي 2019 و2022 تضاعف إنتاج البيانات بشكل هائل حتى تجاوز حاجز 100 زيتابايت، ومع اقتراب نهاية 2025 يتوقع أن يصل حجم البيانات المنتجة يوميا إلى نحو 463 إكسابايت، وهو رقم يعكس كيف أن البشرية في خمس سنوات فقط أنتجت من المعلومات ما يفوق كل ما جمعته عبر تاريخها الطويل.
لكن القيمة الحقيقية لا تكمن في هذا الكم الهائل، بل في القدرة على تحويله إلى معرفة نافعة وقرارات مؤثرة. وهنا يظهر الذكاء الاصطناعي كأداة محورية، فهو القادر على تحليل هذا الطوفان الرقمي واستخلاص الأنماط وتوليد التوقعات الدقيقة، مما يمنح المؤسسات والحكومات قدرة على اتخاذ قرارات أكثر ذكاء وسرعة.
البيانات اليوم ليست رفاهية، بل ضرورة للبقاء في سباق القوة العالمي. من يمتلك القدرة على فهم الأرقام وتحويلها إلى قرارات هو من يملك المستقبل، لا من يعتمد على الموارد التقليدية وحدها. ولهذا صارت تقنيات مثل التحليلات الفورية والحوسبة على الحافة أدوات يومية لإدارة الأسواق وسلاسل التوريد والسيارات ذاتية القيادة، بينما أصبحت حماية الخصوصية والتشفير عوامل سيادية لا تقل أهمية عن الأمن القومي.
ورغم هذا التقدم، فإن هذه الثورة الرقمية تحمل وجها آخر أكثر تعقيدا. فالقوة لم تعد حكرا على الدول، بل باتت في يد الشركات العملاقة التي تسيطر على تدفقات المعلومات حول العالم. شركات مثل جوجل وأمازون وعلي بابا ومايكروسوفت أصبحت كيانات تتجاوز في تأثيرها بعض الحكومات، إذ تتحكم في خوارزميات تشكل الرأي العام وتؤثر في الانتخابات وتعيد رسم الوعي الجمعي للبشر.
الولايات المتحدة والصين تقودان حرب بيانات عالمية، فيما تحاول أوروبا فرض توازن تشريعي يحمي الخصوصية ويحد من تغوّل الشركات عبر قوانين صارمة. لكن المعركة لا تدور فقط حول التكنولوجيا، بل حول القيم والسيادة والحرية، فالسؤال الأعمق هو إلى أي مدى يمكن قبول أن يتحول الإنسان إلى مجرد نقطة بيانات داخل نظام ضخم يقرر عنه ما يراه مناسبا.
خلف هذه الثورة تقف بنية تحتية هائلة من مراكز البيانات التي تمتد عبر القارات وتستهلك طاقة هائلة، ما يثير تحديات بيئية متزايدة. هذه المراكز مسؤولة عن نسب مرتفعة من الانبعاثات الكربونية، وهو ما يجعل التحول إلى الطاقة النظيفة ضرورة لا يمكن تأجيلها حتى لا يتحول التقدم الرقمي إلى عبء مناخي جديد.
وفي العالم العربي، تتجلى المفارقة بوضوح. فالمنطقة تستهلك البيانات أكثر مما تنتجها وتعتمد بشكل كبير على خوادم أجنبية، مما يجعلها رهينة للاعتماد التكنولوجي الخارجي. ومع ذلك، تمتلك الدول العربية فرصة فريدة بفضل طاقاتها البشرية الشابة، إذ يشكل الشباب أكثر من نصف السكان، وهي قاعدة يمكن أن تتحول إلى محرك للإبداع والابتكار إذا جرى الاستثمار فيها بذكاء.
التحدي الحقيقي يكمن في بناء سيادة بيانات عربية، تقوم على إنشاء مراكز بيانات إقليمية تعتمد على الطاقة المتجددة، وسن قوانين تحمي الخصوصية وتدعم الشركات الناشئة في مجالات الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني، إضافة إلى تحالفات اقتصادية قادرة على المنافسة في اقتصاد البيانات العالمي.
إن ثورة البيانات ليست مجرد تطور تقني، بل إعادة تعريف لمفاهيم السلطة والثروة في القرن الحادي والعشرين. من يملك البيانات يملك القدرة على تشكيل المستقبل، ومن لا يملكها سيظل تابعا في النظام العالمي الجديد.
المستقبل العربي يمكن أن يُكتب بأحرف من بيانات، لكن ذلك مرهون بقدرة المنطقة على إدارة هذه الثروة الرقمية بعقلانية وبُعد نظر، حتى لا تبقى مجرد متفرج في عالم تُصنع فيه القرارات من خلف شاشات الخوادم الكبرى.

إرسال تعليق