تشهد تقنيات التزييف العميق تطورًا متسارعًا جعلها تنتقل من كونها أداة ترفيهية إلى خطر حقيقي يهدد استقرار عالم الأعمال، فبعد أن بدأت فكرتها على وسائل التواصل الاجتماعي كمحتوى ساخر يعرض وجوه المشاهير في مواقف مضحكة أو مشاهد خيالية مثل قطة تقود سيارة، تحولت اليوم إلى وسيلة احتيال متطورة تُستخدم لسرقة الأموال والمعلومات الحساسة من الشركات والمؤسسات.
تعتمد مقاطع الفيديو المزيفة على أدوات ذكاء اصطناعي متقدمة قادرة على توليد صور ومقاطع تجعل الشخص يبدو وكأنه يقول أو يفعل أمورًا لم تحدث أصلًا، وذلك باستخدام مواد متاحة على الإنترنت مثل الصور أو المقاطع الصوتية من المقابلات أو البودكاست، مما يمنح هذه الفيديوهات واقعية مذهلة تجعل اكتشاف الزيف أمرًا بالغ الصعوبة.
ومع انتشار أدوات الذكاء الاصطناعي المجانية وسهولة تعلمها، وجد المجرمون السيبرانيون فيها فرصة مثالية لتنفيذ هجمات تصيد متقدمة تستهدف الأفراد والشركات على حد سواء لنشر الشائعات أو سرقة البيانات أو حتى تدمير سمعة العلامات التجارية.
تقرير حديث من شركة Ironscales كشف أن هجمات التزييف العميق ارتفعت بنسبة 10% خلال عام 2025، وأن 85% من المؤسسات واجهت على الأقل حادثة واحدة متعلقة بهذا النوع من الاحتيال.
يمكن لأي صورة أو مقطع فيديو مزيف أن يسبب أضرارًا كبيرة، فانتشار فيديو وهمي لمدير شركة وهو يهاجم مؤسسته أو يعترف بفساد مالي قد يؤدي لانهيار في أسعار الأسهم وفقدان ثقة العملاء. بل يمكن لمقاطع مزيفة تزعم اندماج شركات أو استحواذات غير حقيقية أن تُربك الأسواق وتؤثر على سمعة المؤسسات لفترات طويلة حتى بعد كشف الحقيقة.
من أخطر استخدامات التزييف العميق انتحال الشخصيات القيادية داخل الشركات عبر فيديوهات أو تسجيلات مزيفة لخداع الموظفين وإقناعهم بتنفيذ أوامر مالية وهمية. وقد واجهت شركة Arup البريطانية حادثة شهيرة من هذا النوع عندما خُدع الموظفون بصوت وصورة مزيفين لأحد المدراء التنفيذيين، ما تسبب بخسائر بملايين الدولارات.
ولا يقتصر الخطر على الفيديوهات فقط، فاستنساخ الأصوات أصبح أحد أكثر الأساليب انتشارًا، حيث تصل تسجيلات صوتية مزيفة عبر البريد الإلكتروني أو وسائل التواصل لإقناع الضحايا بتحويل الأموال أو الكشف عن معلومات سرية.
الحماية من هذا الخطر تبدأ من الوعي، فالموظفون هم خط الدفاع الأول، ويجب تدريبهم بشكل دوري على التعرف إلى العلامات التي تكشف التزييف مثل اختلاف نبرة الصوت أو الظلال غير الطبيعية أو ملامح الوجه الغير متناسقة. كما أن الاعتماد على أنظمة المصادقة المتعددة ضروري لتقليل فرص الاحتيال عبر فرض أكثر من خطوة تحقق قبل الموافقة على أي معاملة مالية أو مشاركة بيانات حساسة.
ومن المهم أن تجري الشركات تدقيقًا أمنيًا شاملًا لتحديد الثغرات ووضع خطة استجابة فعالة تشمل آليات التعامل مع الاحتيال المالي واستمرارية الأنظمة والتغطية القانونية والتأمينية، إضافة إلى إدارة سريعة واحترافية للأزمات الإعلامية في حال انتشار أي مقطع مزيف.
ومع تزايد تعقيد التزييف العميق، توصي الدراسات الحديثة باعتماد مبدأ انعدام الثقة داخل البنية الأمنية للمؤسسات بحيث لا يُفترض الأمان في أي مستخدم أو جهاز إلا بعد التحقق الكامل من هويته.
تقرير صادر عن مؤسسة Gartner أشار إلى أن 30% من الشركات ستفقد الثقة في أنظمة التحقق عبر الوجه بحلول العام القادم بسبب قدرة التزييف العميق على خداعها، وهو ما يؤكد ضرورة تطوير وسائل تحقق أكثر ذكاء قادرة على التمييز بين الإنسان الحقيقي والمحتوى المزيف في عالم لم يعد فيه كل ما نراه حقيقيًا.

إرسال تعليق