في إنجاز طبي يلامس حدود الخيال العلمي، كشفت دراسة حديثة نُشرت قبل أسبوعين في مجلة The New England Journal of Medicine عن جهاز طبي مبتكر يعتمد على الذكاء الاصطناعي قادر على مساعدة المصابين بالضمور الجغرافي الناتج عن التنكس البقعي المرتبط بالعمر، وهو أحد أكثر أنواع العمى شيوعًا وصعوبة في العلاج. هذا الابتكار يفتح باب الأمل أمام الملايين حول العالم الذين فقدوا بصرهم بسبب هذا المرض المزمن.
قاد فريق من الأطباء والباحثين هذا المشروع الطبي العالمي، يتقدمه الدكتور خوسيه ألين ساهل من جامعة بيتسبرغ، والدكتور دانيال بالانكر من جامعة ستانفورد، والدكتور فرانك هولز من جامعة بون، ونجحوا جميعًا في تطوير نظام بصري متكامل يعيد للمريض جزءًا من قدرته على الرؤية بعد أن كانت مستحيلة.
بحسب منظمة الصحة العالمية، يُعدّ التنكس البقعي المرتبط بالعمر من أبرز أسباب العمى وضعف البصر حول العالم، إذ يصيب الجزء المركزي من شبكية العين المعروف بالبقعة، وهي المنطقة المسؤولة عن الرؤية الدقيقة والمباشرة التي يحتاجها الإنسان في الأنشطة اليومية مثل القيادة واستخدام الهاتف وقراءة النصوص وتصفح إنستقرام أو غيره من التطبيقات، بينما تبقى الرؤية الجانبية غالبًا أقل وضوحًا وأقل تركيزًا.
ينقسم المرض إلى نوعين رئيسيين هما التنكس البقعي الجاف أو ما يُعرف بالضمور الجغرافي، والتنكس البقعي الرطب. ويُعدّ النوع الجاف هو الأكثر شيوعًا حيث يمثل نحو 80 بالمئة من الحالات وفقًا لتقديرات الأكاديمية الأمريكية لطب العيون. ويحدث هذا النوع عندما تبدأ مناطق من الشبكية في الترقق والتوقف التدريجي عن العمل، ما يؤدي إلى فقدان الرؤية المركزية وتشوش الصورة وبهتان الألوان وصعوبة التعرف على الوجوه، وتقدر الأكاديمية أن هناك ما يقارب 8 ملايين شخص حول العالم يعانون من هذا النوع من الضمور.
الجهاز الجديد الذي طوره الفريق العلمي يعتمد على الذكاء الاصطناعي ويتألف من ثلاثة أجزاء أساسية. شريحة لاسلكية دقيقة جدًا تُزرع داخل العين تُعرف باسم PRIMA، ونظارات فيديو ذكية تشبه نظارات الواقع المعزز تحتوي على كاميرا مدمجة، ومعالج صغير يقوم بمعالجة البيانات البصرية عبر خوارزميات الذكاء الاصطناعي.
يتم زرع الشريحة تحت المنطقة المتضررة من البقعة بعد إزالة الجسم الزجاجي في العين في عملية جراحية دقيقة، وتبلغ سماكتها نحو 30 ميكرون فقط، وتحتوي على 378 قطبًا كهربائيًا في مساحة صغيرة لا تتجاوز 2×2 مليمتر. وتلتقط النظارات المشهد في الوقت الفعلي ثم ترسله إلى الشريحة عبر نبضات ضوء تحت الحمراء، تقوم الشريحة بتحويلها إلى نبضات كهربائية تنشط خلايا الشبكية العصبية.
أما المعالج فيعمل على ترجمة هذه الإشارات باستخدام الذكاء الاصطناعي وتقنيات التعلم الآلي، ليحول البيانات البصرية إلى إشارات يفهمها الدماغ ويعيد تفسيرها على شكل صورة، وبذلك يصبح الذكاء الاصطناعي هو الوسيط الذي يعيد ربط العين بالدماغ بطريقة جديدة تمامًا.
اختُبر الجهاز على 38 مشاركًا من دول مختلفة بينها المملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا وألمانيا وهولندا، وبعد مرور 12 شهرًا أظهر 32 مريضًا تحسنًا واضحًا في وضوح الرؤية، وتمكن 84 بالمئة من المشاركين من قراءة أرقام وحروف وكلمات باستخدام عين كانت سابقًا عمياء تمامًا.
وأكد الباحثون أن نتائج التجربة تُعد تقدمًا طبيًا غير مسبوق في علاج العمى الناتج عن الضمور الجغرافي، وأن الجهاز الذي يعتمد على شريحة PRIMA أثبت فعاليته في استعادة الرؤية المركزية وتحسين حدة البصر خلال عام واحد فقط من المتابعة، مما يجعله خطوة تاريخية نحو إعادة النور إلى عيون فقدت الأمل بالرؤية من جديد.

إرسال تعليق