يشهد العالم في السنوات الأخيرة تحولًا هائلًا في موازين القوة التقنية، فسباق الذكاء الاصطناعي لم يعد مقتصرًا على الابتكار بل أصبح صراعًا استراتيجيًا بين الولايات المتحدة والصين، وفق رؤية الباحث دان وانغ من جامعة ستانفورد الذي أكد أن بكين باتت تقترب يومًا بعد يوم من كسر احتكار واشنطن في هذا المجال.
ويشير وانغ إلى أن الصين تستفيد من قوتها الصناعية الهائلة وبنيتها التحتية الضخمة في الطاقة، ما يمنحها تفوقًا يصعب على الغرب مجاراته. ففي نهاية عام 2024 ظهرت شركة ديب سيك الصينية بنموذج لغوي متطور استطاع منافسة أفضل النماذج الأمريكية مستخدمًا عددًا أقل من الرقاقات الإلكترونية، وهو إنجاز لفت أنظار العالم إلى قدرات الشركات الصينية الناشئة.
وسرعان ما لحقت شركات كبرى مثل علي بابا وبايت دانس بهذا الركب، وقدمت نماذج ذكاء اصطناعي قوية أظهرت أداءً منافسًا للنماذج الغربية. وحتى قطاع الرقاقات الذي يعاني من العقوبات شهد قفزة واضحة في تطوير رقاقات مخصصة للذكاء الاصطناعي داخل الصين.
في المقابل بدأ كثير من المستثمرين ورواد الأعمال في وادي السيليكون يدركون حجم التقدم الصيني، معبّرين عن إعجابهم بقدرة بكين على تصنيع سيارات كهربائية معقدة وتشغيل مشروعات طاقة متجددة ضخمة، لكن القلق يزداد في الداخل الأمريكي من سياسات إدارة الرئيس دونالد ترامب، خاصة تلك التي تحد من منح تأشيرات العمل التقنية للمهندسين الأجانب الذين يشكلون ركيزة أساسية لصناعة التكنولوجيا.
ولا تزال الولايات المتحدة تحتفظ بتفوقها في قدرات الحوسبة المتقدمة ورقاقات المعالجة الفائقة، غير أن الصين تملك ميزة لا يستهان بها في الطاقة والبنية التحتية. فمحطات البيانات العملاقة تحتاج إلى طاقة هائلة، وهنا تتقدم الصين بفارق كبير بعد أن أضافت خلال النصف الأول من عام 2025 نحو 256 جيجاواط من الطاقة الشمسية، أي ما يعادل 12 ضعف ما أضافته أمريكا في الفترة نفسها، إضافة إلى 32 مفاعلًا نوويًا قيد الإنشاء مقابل لا شيء لدى الولايات المتحدة.
في المقابل تتبنى إدارة ترامب مواقف معادية لمشروعات الطاقة المتجددة، واصفًا إياها بأنها خدعة القرن، وهو ما قد يؤدي إلى نقص مستقبلي في الطاقة يحد من توسع مراكز البيانات الأمريكية. بينما تتحرك الصين بثبات نحو تأمين احتياجاتها الصناعية من الطاقة دون تردد في ضخ الموارد اللازمة.
أما على صعيد الكفاءات، فالمهندسون المتخصصون في الذكاء الاصطناعي باتوا من أغلى الموارد عالميًا. وتشير تقارير إلى أن مارك زوكربيرج عرض مبالغ ضخمة تصل إلى مئات الملايين من الدولارات لاستقطاب أفضل العقول في هذا المجال، والمفارقة أن كثيرًا من هؤلاء تلقوا تعليمهم في جامعات صينية مرموقة مثل تسينغهوا وبكين وتشجيانغ.
ويتنقل هؤلاء المهندسون بين الشركات الأمريكية والصينية باستمرار، ويتوقف قرار بقائهم في الولايات المتحدة أو عودتهم إلى الصين على مدى انفتاح واشنطن واستقبالها للكفاءات. ويحذر الخبراء من أن تصاعد الخطاب القومي والقيود الصارمة قد تدفع الكثير منهم للعودة إلى وطنهم مما يمنح الصين قوة إضافية في هذا السباق.
ويرى المراقبون أن التنافس بين القوتين لا يتعلق فقط بمن يصل أولًا إلى الذكاء الاصطناعي الفائق، بل بكيفية استخدام هذه التقنية. ففي حين تركّز الشركات الأمريكية على مفاهيم الذكاء الخارق وسيناريوهات الخيال العلمي، تنظر بكين إلى الذكاء الاصطناعي كأداة عملية لتعزيز الإنتاج وتحسين كفاءة الصناعات.
وبهذا المنظور قد تستخدم الولايات المتحدة الذكاء الاصطناعي لتوسيع تفوقها في قطاع الخدمات، بينما توظفه الصين لتطوير صناعاتها الثقيلة والإلكترونيات والطائرات المسيّرة والدفاعية مستفيدة من كمّ البيانات الصناعية الضخم المتاح لديها.
ويبقى التحدي الأكبر أمام الصين هو ضعف الوصول إلى الرقاقات المتقدمة اللازمة لتدريب النماذج الضخمة. ومع ذلك تشير تقارير حديثة إلى أن إدارة ترامب قد تدرس منح استثناءات محدودة لشركتي إنفيديا وAMD تسمح ببيع رقاقات معينة إلى الصين مقابل رسوم تصل إلى 15% من الإيرادات، ما قد يخفف حدة الأزمة.
وفي حال تخفيف هذه القيود مستقبلًا، قد تتمكن الصين من تضييق الفجوة بوتيرة سريعة، مما يمنحها دفعة قوية لتطوير نماذج أكثر تطورًا في فترة زمنية قصيرة.
ويختتم وانغ تحليله بالتأكيد على أن العالم يقف على أعتاب مرحلة جديدة من المنافسة التكنولوجية عنوانها الذكاء الاصطناعي والطاقة والموارد البشرية، وأن التفوق في هذا السباق لن يُحسم فقط بتقنيات النماذج اللغوية، بل بالقدرة على بناء منظومات إنتاجية متكاملة تدعم الابتكار وتجعله مستدامًا.
إرسال تعليق